الثلاثاء، 1 أغسطس 2017

تخريج الأثر المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون)



طلب مني أحد الإخوة تخريج الأثر المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون):
فأقول: تفضل أخانا الحبيب، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، ويتقبل منا ومنكم ويهدينا سبل السلام، اللهم آمين،،،،
أقول:
اعلم علمني الله وإياك أنني لم أقف على هذا الأثر مروياً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلا في كتابين:
أخرجه ابن الأثير في (أسد الغابة) [1/646] وابن العديم في (بغية الطلب في تاريخ حلب) [4/146 رقم: 94] من طرق عن أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: (كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا مُدِحَ قَالَ:
اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ، وَلا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ).
قلت:
الأصمعي هو: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن على بن أصمع ، أبو سعيد الباهلي الأصمعي البصرى ( صاحب اللغة و النحو و الغريب و الأخبار )، قال الحافظ: صدوق، من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين.
قلت:
إذاً: بينه وبين أبي بكر رضي الله عنه مفاوز تنقطع عنها أعناق المطي. فالأثر أقل أحواله أنه معضل، وأضف إلى ذلك أنَّ: أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال الدارقطني: تكلموا فيه.
قلت: من جهة العدالة – والله أعلم - لأنه كان يشرب الخمر –عياذا بالله- قال ابن شاهين كنا ندخل عليه فنستحيي مما نرى من العيدان والشراب وقد شاخ، وقال أبو منصور الأزهري دخلت فرأيته سكران فلم أعد إليه، كما في (السير) [29/92].
فالأثر عن أبي بكر ضعيف جداً.
ولكن روي عن جماعة آخرين بألفاظ متقاربة ومن ذلك:
1- عُمَر مَوْلَى غُفْرَةَ:
أخرجه أبو بكر الفريابي في (صفة النفاق وذم المنافقين) [1/42 رقم:94]، من طريق عبد الله بن المبارك وهو عنده في (الزهد) [1/14] قال أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَشِيطٍ سَمِعْتُ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ يَقُولُ : (أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ النِّفَاقِ ، وَأَشَدُّهُمْ خَوْفَاً عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ الَّذِي لا يَرَى أَنَّهُ يُنْجِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ مِنْهُ الَّذِي إِذَا زُكِيَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ ارْتَاحَ قَلْبُهُ وَقَبِلَهُ) ، وَقَالَ : (وَإِذَا زُكِيتَ بِمَا لَيْسَ فِيكَ ، فَقُلْ : اللَّهُمَّ اغْفَرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ ، وَلا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
قلت: صحيح الإسناد إلى عمر مولى غفرة، وإبراهيم بن نشيط هو أبو بكر الوعلاني: ثقة، وليس فيه (اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ)
2- الأوزاعي:
أخرجه البيهقي في (الشعب) [6/504 رقم: 4533]، قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي نا أبو العباس محمد يعقوب أنا العباس بن الوليد بن مزيد نا أبي قال : سمعت الأوزاعي يقول: (إِذَا أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي وَجْهِهِ، فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنَ النَّاسِ، اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ).
قلت: إسناده حسن، العباس بن الوليد بن مزيد: صدوق، قاله الحافظ، وليس فيه (اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ).
3- يزيد بن ميسرة:
أخرجه أبو نعيم في (الحلية) [5/240] قال حدثنا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبو المغيرة ثنا صفوان بن عمرو قَالَ: كَانَ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ فِيمَا بَلَغَنَا يَقُولُ: (إِذَا زَكَّاكَ رَجُلٌ فِي وَجْهِكَ فَأَنْكِرْ عَلَيْهِ وَاغْضَبْ، وَلَا تُقِرَّ بِذَلِكَ، وَقُلِ: اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ).
قلت: حسن الإسناد، أبو بكر بن مالك هو : أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبو بكر القطيعي، راوي مسند الإمام أحمد، وهو صدوق، تُكلم فيه وردَّ العلامة المعلمي اليماني رحمه الله تعالى على من طعن فيه بما لا مزيد عليه، في كتابه الماتع (التنكيل) [1/208] فليراجعه من شاء، وأبو المغيرة هو: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني: ثقة، وباقي رجاله ثقات.
قلت: وليس فيه (اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ).
4- محمد بن زياد عن بعض السلف:
أخرجه البيهقي في (الشعب) [6/504 رقم: 4534] قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن نا أبو العباس نا أبو عتبة نا بقية نا محمد بن زياد عن بعض السلف، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُمْدَحُ فِي وَجْهِهِ ، قَالَ: التَّوْبَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: (اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ).
قلت: (ضعيف) بقية صرَّح بالتحديث فبرئت ساحته، ولكن العلة في أبي عتبة وهو: أحمد بن الفرج بن سليمان الكندي أبو عتبة الحمصي المعروف بالحجازي المؤذن، فهو ضعيف، كذبه بعضهم، ولكن القول فيه هو قول ابن عدي رحمه الله حيث قال: وأبو عتبة مع ضعفه قد احتمله الناس، ورووا عنه: أبو عتبة وسط ليس ممن يحتج بحديثه أو يتدين به إلا أنه يكتب حديثه، كما في (إكمال تهذيب الكمال) لعلاء الدين مغلطاي [1/104]
5- عدي بن أرطأة:
أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) [1/267 رقم: 761] قال حدثنا مخلد بن مالك قال حدثنا حجاج بن محمد قال أخبرنا المبارك عن بكر بن عبد الله المزني عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَأَةَ قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلم إِذَا زُكِّيَ قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ).
قلت: خولف حجاج بن محمد خالفه هاشم بن القاسم، وعفان بن مسلم فروياه عن الْمُبَارَك بنِ فضالة ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ ، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ أَوْ مُدِحَ فَسَمِعَ قَالَ : اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ). 
أخرجه الإمام أحمد في (الزهد) [1/205]، وابن أبي شيبة في (المصنف) [7/242 رقم: 35703].
فخالفه في أمرين:
1- في رواية عفان بن مسلم عند ابن أبي شيبة صرح مبارك بالتحديث عن شيخه، ومعلوم أن مبارك بن فضالة صدوق يدلس ويسوي، قال أبو زرعة إذا قال حدثنا فهو ثقة.
2- أنهما قالا: عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وهو قال: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلم.
وبينهما فرق كبير لمن تأمل.
قلت: حجاج بن محمد هو المصيصي الأعور: ثقة ثبت تغير بآخره، فتترجح رواية عفان بن مسلم: ثقة ثبت ربما وهم، وهاشم بن القاسم: صدوق تغير بآخره، للكثرة.
والترجيح لا يعني الصحة كما هو معلوم، فعدي بن أرطأة قال الدارقطني: عدي يحتج بحديثه كما عند الذهبي في (تاريخ الإسلام) [3/98].
قلت: أي في المتابعات، ولذلك قال الحافظ عنه في التقريب: مقبول.
قلت: أي إذا توبع وإلا فلين، كما هو معلوم من صنيع الحافظ وتقريره في مقدمة التقريب.
قلت: ولقائل أن يقول: له متابع وهو: الأصمعي، بحمل قوله: (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ) على أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما في رواية الأصمعي.
فأقول تنزلاً: ولنفرض أن الرجل المبهم هنا هو المصرح به هناك، يبقى شيء مهم وهو: الإعضال أيضاً؛ فعدي بن أرطأة من الطبقة الرابعة التي تلي الوسطى من التابعين، قتل صبراً في خلافة معاوية بن يزيد بن المهلب سنة 102هـ، فبينه وبين أبي بكر رضي الله عنه المفاوز لذلك نص ابن حبان كما في (إكمال تهذيب الكمال) لعلاء الدين مغلطاي [9/201] فقال: (يروي المراسيل) اهـ.
هذا؛ وليس فيه - أيضاً- (اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ).
ولسائل أن يسأل: هل المعضل يتقوى بالمعضل فيصح به؟
أقول:
أولاً: لم يصح معضل الأصمعي؛ ففيه ابن دريد وهو مطعون في عدالته وكذلك معضل عدي كما تقدم.
ثانياً: هذان المعضلان بينهما تفاوت في المتن لمن تأمل.
ثالثاً: الصواب عندي - في هذه المسألة - الذي لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه أن الأصل في الحديث المعضل أنه لا يَتَقَوَّى بغيره ولا يُقَوِّي غيره، اللهم إلا إذا احتفت به القرائن التي تختلج في قلب الناقد وتهجم عليه فلا تدع له مجالاً للترد في الحكم على دخوله حيز الاعتبار؛ خلافاً لمن جعله محلاً للاعتبار مطلقاً، وليست بصدد بسط القول في هذه المسألة هنا، فقد حررتها بما لا مزيد عليه إن شاء الله في مكانها من كتابي (نسيم السحر شرح نخبة الفكر)، يسر الله طبعه.
قلت: وهذان المعضلان على الأصل لا يقوي بعضهما البعض، بل احتفت القرائن على ذلك لمن تأمل؛ مثل:
1- كلاهما لم يصح إلى من أعضله.
2- تغاير بعض ألفاظ المتن.
3- الأصمعي من صغار أتباع التابعين فمحتمل سقوط أكثر من راويين؛ وكذلك عدي بن أرطأة وإن كان من الطبقة الرابعة التي تلي الوسطى من التابعين إلا أنه شامي وأبو بكر مدني فاحتمال سقوط أكثر من راويين وارد بمرة، فمثل هذه القرائن يبعد بعد المشرقين تقوية أحدهما الآخر، هذا كله تنزلاً على الافتراض الأول، فكن على ذكر به وهو: (أن الرجل المبهم في رواية عدي هو أبو بكر الصديق المصرح به في رواية الأصمعي)، فكيف والافتراض هذا لا يمكن تصوره والحالة هكذا.
الخلاصة:
1- لم يثبت هذا الأثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أي طريق وقفت عليه.
2- ثبت الأثر عن آخرين كالأوزاعي ويزيد بن ميسرة وغيرهما.
3- لم يثبت لفظ: (وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ) من أي طريق وقفت عليه.
4- يجوز الدعاء به ولكن لا يجوز نسبته لأبي بكر، فقد دعا به الإمام أحمد رحمه الله كما روى أبو بكر المروذي في (الورع) [ص: 152] قال: قلت لأبي عبد الله: إن بعض المحدثين قال لي: أبو عبد الله لم يزهد في الدراهم وحدها؛ قد زهد في الناس، فقال أبو عبد الله: (وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَزْهَدَ فِي النَّاسِ؛ النَّاسُ يُرِيدُونَ يَزْهَدُونَ فِيَّ)، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: (أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ وَيَغْفِرَ لَنَا مَا لَا يَعْلَمُونَ).
ودعا به الإمام ابن باز رحمه الله لما مدحه أحدهم على نيله جائزة الملك فيصل فقال: من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ الكريم فضيله الأستاذ الجليل والأديب الفاضل الشيخ أحمد محمد جمال، لازال موفقاً لجميل الخصال، نائلاً غاية الآمال آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد اطلعت على كلمتكم في جريدة عكاظ تاريخ 27/3/1402هـ حول منح أخيكم جائزة الملك فيصل وما تفضلتم به من الثناء الجميل، والدعوات الطيبة، والشعور النبيل نحو محبكم، وإني لأشكركم وجميع إخواني على حسن ظنهم بي، وأسأل الله أن يجعلني خيراً مما يظنون، ويغفر لي ما لا يعلمون....) انتهى من كتاب (جوانب من سيرة ابن باز) [ص: 86].
وغيرهما الكثير من أهل العلم، والله تعالى أعلى وأعلم.
والحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب:
أبو العباس بلال بن عبد الغني السالمي الأثري
القصيم – عنيزة
18/10/1436هـ

0 التعليقات:

إرسال تعليق